فصل: قال القرطبي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الفخر:

اعلم أن عادة العرب قبل الإسلام أنه إذا لقي بعضهم بعضا قالوا: حياك الله واشتقاقه من الحياة كأنه يدعو له بالحياة، فكانت التحية عندهم عبارة عن قول بعضهم لبعض حياك الله، فلما جاء الإسلام أبدل ذلك بالسلام، فجعلوا التحية اسما للسلام.
قال تعالى: {تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سلام} [الأحزاب: 44] ومنه قول المصلى: التحيات لله، أي السلام من الآفات لله، والأشعار ناطقة بذلك.
قال عنترة:
حييت من طلل تقادم عهده

وقال آخر:
إنا محيوك يا سلمى فحيينا

واعلم أن قول القائل لغيره: السلام عليك أتم وأكمل من قوله: حياك الله، وبيانه من وجوه:
الأول: أن الحي إذا كان سليما كان حيا لا محالة، وليس إذا كان حيًا كان سليما، فقد تكون حياته مقرونة بالآفات والبليات، فثبت أن قوله: السلام عليك أتم وأكمل من قوله: حياك الله.
الثاني: أن السلام اسم من أسماء الله تعالى، فالابتداء بذكر الله أو بصفة من صفاته الدالة على أنه يريد ابقاء السلامة على عباده أكمل من قوله: حياك الله.
الثالث: أن قول الإنسان لغيره: السلام عليك فيه بشارة بالسلامة، وقوله: حياك الله لا يفيد ذلك، فكان هذا أكمل.
ومما يدل على فضيلة السلام القرآن والأحاديث والمعقول، أما القرآن فمن وجوه: الأول: اعلم أن الله تعالى سلم على المؤمن في اثني عشر موضعا: أولها: أنه تعالى كأنه سلم عليك في الأزل، ألا ترى أنه قال في وصف ذاته: {الملك القدوس السلام} [الحشر: 23]
وثانيها: أنه سلم على نوح وجعل لك من ذلك السلام نصيبا، فقال: {قِيلَ يانوح اهبط بسلام مّنَّا وبركات عَلَيْكَ وعلى أُمَمٍ مّمَّن مَّعَكَ} [هود: 48] والمراد منه أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وثالثها: سلم عليك على لسان جبريل، فقال: {تَنَزَّلُ الملائكة والروح فِيهَا بِإِذْنِ رَبّهِم مّن كُلّ أَمْرٍ سلام هي حتى مَطْلَعِ الفجر} [القدر: 5] قال المفسرون: إنه عليه الصلاة والسلام خاف على أمته أن يصيروا مثل أمة موسى وعيسى عليهما الصلاة والسلام، فقال الله: لا تهتم لذلك فاني وإن أخرجتك من الدنيا، إلا أني جعلت جبريل خليفة لك، ينزل إلى أمتك كل ليلة قدر ويبلغهم السلام مني.
ورابعها: سلم عليك على لسان موسى عليه السلام حيث قال: {والسلام على مَنِ اتبع الهدى} [طه: 47] فإذا كنت متبع الهدى وصل سلام موسى إليك.
وخامسها: سلم عليك على لسان محمد صلى الله عليه وسلم، فقال: {الحمد لِلَّهِ وسلام على عِبَادِهِ الذين اصطفى} [النمل: 59] وكل من هدى الله إلى الإيمان فقد اصطفاه، كما قال: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الكتاب الذين اصطفينا مِنْ عِبَادِنَا} [فاطر: 32] وسادسها: أمر محمدًا صلى الله عليه وسلم بالسلام على سبيل المشافهة، فقال: {وَإِذَا جَاءكَ الذين يُؤْمِنُونَ بآياتنا فَقُلْ سلام عَلَيْكُمْ} [الأنعام: 54] وسابعها: أمر أمة محمد صلى الله عليه وسلم بالتسليم عليك قال: {وَإِذَا حُيّيتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} وثامنها: سلم عليك على لسان ملك الموت فقال: {الذين تتوفاهم الملائكة طَيّبِينَ يَقُولُونَ سلام عَلَيْكُمُ} [النحل: 32] قيل: إن ملك الموت يقول في أذن المسلم: السلام يقرئك السلام، ويقول: أجبني فاني مشتاق إليك، واشتاقت الجنات والحور العين إليك، فإذا سمع المؤمن البشارة، يقول لملك الموت: للبشير مني هدية، ولا هدية أعز من روحي، فاقبض روحي هدية لك، وتاسعها: السلام من الأرواح الطاهرة المطهرة، قال تعالى: {وَأَمَّا إِن كَانَ مِنْ أصحاب اليمين فسلام لَّكَ مِنْ أصحاب اليمين} [الواقعة: 91] وعاشرها: سلم الله عليك على لسان رضوان خازن الجنة فقال تعالى: {وَسِيقَ الذين اتقوا رَبَّهُمْ إِلَى الجنة زُمَرًا} إلى قوله: {وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سلام عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ} [الزمر: 73] والحادي عشر: إذا دخلوا الجنة فالملائكة يزورونهم ويسلمون عليهم.
قال تعالى: {والملائكة يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مّن كُلّ بَابٍ سلام عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عقبى الدار} [الرعد: 23، 24] والثاني عشر: السلام من الله من غير واسطة وهو قوله: {تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سلام} [الأحزاب: 44] وقوله: {سَلاَمٌ قَوْلًا مّن رَّبّ رَّحِيمٍ} [ياس: 58] وعند ذلك يتلاشى سلام الكل لأن المخلوق لا يبقى على تجلي نور الخالق.
الوجه الثاني: من الدلائل القرآنية الدالة على فضيلة السلام أن أشد الأوقات حاجة إلى السلامة والكرامة ثلاثة أوقات: وقت الابتداء، ووقت الموت، ووقت البعث، والله تعالى لما أكرم يحيى عليه السلام فانما أكرمه بأن وعده السلام في هذه الأوقات الثلاثة فقال: {وسلام عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حيا} [مريم: 15] وعيسى عليه السلام ذكر أيضا ذلك فقال: {والسلام عَلَىَّ يَوْمَ وُلِدْتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا} [مريم: 33].
الوجه الثالث: أنه تعالى لما ذكر تعظيم محمد عليه الصلاة والسلام قال: {إِنَّ الله وملائكته يُصَلُّونَ عَلَى النبي يا أيها الذين ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا} [الأحزاب: 56] يروى في التفسير أن اليهود كانوا إذا دخلوا قالوا: السام عليك، فحزن الرسول عليه الصلاة والسلام لهذا المعنى، فبعث الله جبريل عليه السلام وقال: إن كان اليهود يقولون السام عليك، فأنا أقول من سرادقات الجلال: السلام عليك، وأنزل قوله: {إِنَّ الله وملائكته يُصَلُّونَ عَلَى النبى} إلى قوله: {وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا}.
وأما ما يدل من الأخبار على فضيلة السلام فما روي أن عبد الله بن سلام قال: لما سمعت بقدوم الرسول عليه الصلاة والسلام دخلت في غمار الناس، فأول ما سمعت منه: «يا أيها الناس أفشوا السلام وأطعموا الطعام وصلوا الأرحام وصلوا بالليل والناس نيام تدخلوا الجنة بسلام».
وأما ما يدل على فضل السلام من جهة المعقول فوجوه: الأول: قالوا: تحية النصارى وضع اليد على الفم، وتحية اليهود بعضهم لبعض الإشارة بالأصابع، وتحية المجوس الانحناء، وتحية العرب بعضهم لبعض أن يقولوا: حياك الله، وللملوك أن يقولوا: أنعم صباحا، وتحية المسلمين بعضهم لبعض أن يقولوا: السلام عليك ورحمة الله وبركاته، ولا شك أن هذه التحية أشرف التحيات وأكرمها.
الثاني: أن السلام مشعر بالسلامة من الآفات والبليات.
ولا شك أن السعي في تحصيل الصون عن الضرر أولى من السعي في تحصيل النفع.
الثالث: أن الوعد بالنفع يقدر الإنسان على الوفاء به وقد لا يقدر، أما الوعد بترك الضرر فإنه يكون قادرا عليه لا محالة، والسلام يدل عليه.
فثبت أن السلام أفضل أنواع التحية. اهـ.

.قال القرطبي:

واختلف العلماء في معنى الآية وتأويلها؛ فروى ابن وهب وابن القاسم عن مالك أن هذه الآية في تشميت العاطس والردّ على المُشَمِّت.
وهذا ضعيف؛ إذ ليس في الكلام دلالة على ذلك، أمّا الرد على المشمِّت فمما يدخل بالقياس في معنى ردّ التحية، وهذا هو منحى مالك إن صح ذلك عنه. والله أعلم.
وقال ابن خُوَيْزِ مَنْدَاد: وقد يجوز أن تُحمل هذه الآية على الهبة إذا كانت للثواب؛ فمن وُهب له هبة على الثواب فهو بالخيار إن شاء ردّها وإن شاء قبِلها وأثاب عليها قيمتها.
قلت: ونحو هذا قال أصحاب أبي حنيفة، قالوا: التحية هنا الهدية؛ لقوله تعالى: {أَوْ رُدُّوهَا} ولا يمكن ردّ السلام بعينه.
وظاهر الكلام يقتضي أداء التحية بعينها وهي الهدية، فأمر بالتعويض إن قبِل أو الردّ بعينه، وهذا لا يمكن في السلام.
وسيأتي بيان حكم الهبة للثواب والهدية في سورة «الروم» عند قوله: {وَمَا آتَيْتُمْ مِّن رِّبًا} [الروم: 39] إن شاء الله تعالى.
والصحيح أن التحية هاهنا السلام؛ لقوله تعالى: {وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ الله} [المجادلة: 8].
وقال النابغة الذُّبيانِيّ:
تُحَيِّيهم بيضُ الولائدِ بينهم ** وأكسيةُ الإضرِيج فوق المشاجبِ

أراد: ويسلّم عليهم.
وعلى هذا جماعة المفسرين.
وإذا ثبت هذا وتقرّر ففِقهُ الآية أن يُقال: أجمع العلماء على أن الابتداء بالسلام سُنّة مرغّب فيها، وردُّه فريضة؛ لقوله تعالى: {فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا}.
واختلفوا إذا ردّ واحد من جماعة هل يجزئ أو لا؛ فذهب مالك والشافعيّ إلى الإجزاء، وأن المسلم قد ردّ عليه مثلَ قوله.
وذهب الكوفيون إلى أن ردّ السَّلام من الفروض المتعيّنة؛ قالوا: والسلام خلاف الردّ؛ لأن الابتداء به تطوّع وردّه فريضة.
ولو ردّ غير المسلم عليهم لم يسقط ذلك عنهم فرض الردّ، فدل على أن ردّ السلام يلزم كل إنسان بعينه؛ حتى قال قتادة والحسن: إن المصلي يردّ السلام كلامًا إذا سُلّم عليه ولا يقطع ذلك عليه صلاتَه؛ لأنه فعل ما أمر به.
والناس على خلافه.
احتج الأوّلون بما رواه أبو داود عن عليّ بن أبي طالب عن النبّي صلى الله عليه وسلم قال: «يُجزئ من الجماعة إذا مَرُّوا أن يُسلّم أحدهم، ويجزئ عن الجلوس أن يردّ أحدهم» وهذا نصٌّ في موضع الخلاف.
قال أبو عمر: وهو حديث حسَن لا معارض له، وفي إسناده سعيد بن خالد، وهو سعيد بن خالد الخزاعيّ مدنِيّ ليس به بأس عند بعضهم؛ وقد ضعّفه بعضهم منهم أبو زُرعة وأبو حاتم ويعقوب بن شيبة وجعلوا حديثه هذا منكرًا؛ لأنه انفرد فيه بهذا الإسناد؛ على أن عبد الله بن الفضل لم يسمع من عبيد الله بن أبي رافع؛ بينهما الأعرج في غير ما حديث. والله أعلم.
واحتجوا أيضًا بقوله عليه السَّلام: «يُسلم القليل على الكثير» ولما أجمعوا على أن الواحد يسلم على الجماعة ولا يحتاج إلى تكريره على عداد الجماعة، كذلك يردّ الواحد عن الجماعة وينوب عن الباقين كفروض الكفاية.
وروى مالك عن زيد بن أسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يسلم الراكب على الماشي وإذا سلم واحد من القوم أجزأ عنهم» قال علماؤنا: وهذا يدل على أن الواحد يكفي في الرد؛ لأنه لا يُقال أجزأ عنهم إلاَّ فيما قد وجب. والله أعلم.
قلت: هكذا تأوّل علماؤنا هذا الحديث وجعلوه حجة في جواز رد الواحد؛ وفيه قلق. اهـ.